الأحد، 5 أغسطس 2012

القضاء والقدر (5 )


نوار العقل وحدها لاتستطيع اكتناه سر القضاء و القدر..
نحتاج هنا إلى أنوار من لون آخر.. أنوار ليست مادية..
إن القضاء و القدر يصدران من الله.. كما يتصلان بالانسان..
ماصدر من الله تعالى لاتصلح أنوار العقل وحدها لاكتشافه.
أما الجزء المتصل بالانسان فللعقل أن يعمل فيه و يكتشف ويحاول الفهم..
وغاية العقل أن يفهم و يعرف..
وليس الفهم وحده هو المطلوب من المسلم.. كما أن المعرفة العقلية ليس

ت بمفردها هي الغرض النهائي لوجود المسلم..
ثمة آفاق وراء آفاق الفهم والمعرفة..
ثمة مستويات أخرى تعلو على الفهم المجرد أو المعرفة العقلية..
نتحدث عن الحب..
بغير الحب يصعب علينا تفسير القضاء و القدر..
وبغير الحب يصير القضاء والقدر لغزا لاأمل في حله
ان العقل يمكن أن يتساءل أسئلة محيرة.. وهذه مهمة العقل و وظيفته..
غير أن العقل وحده.. بأنواره المحدودة.. لايصلح لغير الحياة على الأرض، وتقدمه في مجال يتصل بحكمة الله تعالى –كالقضاء والقدر- لايؤدي إلى نتيجة نهائية.. إنما يصلح العقل لاستكشاف الطريق، أو يصلح لتصويب الاتجاه في البداية..
يقول جلال الدين الرومي :
"إن العقل في بداية الأمر يكون أستاذا للمرء.. ولكنه بعد ذلك يصبح تلميذا له"
ومتى أصبح العقل تلميذا تقدم الحب و جلس على عرشه..
وإذا كان شأن العقل أن يبحث ويسأل ويتطلع ولايتوقف عن الأسئلة.. فإن شأن الحب هو الطاعة العذبة و الاستسلام المحض..
أو فلنقل أن شأن الحب هو اختيار إرادة المحبوب..

بدلا من أن نسأل "هل الإنسان مسير أم مخير ؟ "
تتحول القضية إلى سؤال آخر "كيف يصير الإنسان بلا إرادة أمام إرادة الله؟"
كيف يختار الإنسان أن يكون مجبورا مثل ريشة تلعب بها مياه البحر؟؟
كيف يتحول الإنسان فيصير هو البحر و الريشة و الرياح و التيار و الموج و الشاطئ؟؟
إن هناك مستويات للنظر إلى عقيدة القضاء و القدر في الإسلام..
أولها أن يعلم الإنسان أنه حر و مسئول أمام الله.. وأن يعلم أن حريته تخضع لمشيئة الله المطلقة النافذة..
إن شاء سمح بالتقوى.. وإن شاء يسر الطريق للغواية.

لايسال لماذا شاء لموسى أن يكون موسى ، ولايسأل لماذا شاء لفرعون أن يصير فرعون.. لايسأل لماذا اختار محمدا رحمة للعالمين ، وترك أبا لهب نقمة على عصره.. لايسأل لماذا هدى إنسانا و أضل آخر. لايسأل عن شيء مما يفعل ، لأنه خالق الأشياء وصاحبها ومالكها والمتصرف فيها.. وهو قد أصدر أوامره الواحدة لموسى وفرعون ومحمد عليه الصلاة والسلام وأبي لهب.. أطاع موسى و عصى فرعون ، و ارتفع رسول الله و هبط أبو لهب.. و قبل هذا كله أخطأ آدم و أخطأ إبليس.. وتاب آدم و احتج إبليس بالقضاء و القدر..
(قال أنا خير منه..)
كانت كلمته كبرياء بحتا ، و عصيانا لأمر الله.. ايضا كان في كلماته ما يؤكد أنه يحتج على القضاء و القدر.
(قال فبما أغويتني..) أنه يسند الغواية إلى الله عز و جل ، ويحمل تبعة أخطائه على الخالق ، و هذا سوء أدب مع الله.. و إصرار على تحدي الخالق..
يختلف هذا الموقف عن موقف آدم.. فقد اعترف بظلمه وسأل المغفرة وتوسل إلى الرحمة.. (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين)

ولهذا قال العارفون بالله "اثنان أذنبا ذنبا ، إبليس و آدم ، أما آدم فتاب ، فتاب الله عليه و اختاره و هداه ، و أما إبليس فأصر و احتج بالقدر ، فمن تاب من ذنبه كان يشبه أباه آدم ، و من أصر واحتج بالقدر صار يشبه إبليس.."
حرية الإنسان موجودة وقائمة ولكنها تتحرك داخل إطار المشيئة الإلهية.
قال تعالى : 
(لمن شاء منكم أن يستقيم ، وماتشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)
مشيئة الإنسان متوفرة و موجودة ومشيئة الله مهيمنة و حاكمة و محيطة..
هذا أول مستوى في النظر إلى القضاء و القدر..
وثمة مستوى آخر.. هو مستوى الحب.. مستوى اختيار الجبر

الله فى العقيدة الاسلامية
( أحمد بهجت )



هناك تعليق واحد: